شهدت منطقة شمال وشرق سوريا خلال السنوات الأخيرة موجات متتالية من النزوح والهجرة نتيجة للصراعات المسلحة والتحولات السياسية والأزمات الاقتصادية مما أدى إلى تغيير كبير في التركيبة السكانية والبنية الاجتماعية للمجتمع فالنزوح لا يعني فقط ترك المنزل بل يترك تأثيراً عميقاً على الفرد والأسرة والمجتمع من الناحية النفسية والاجتماعية والاقتصادية ويتجاوز تأثيره حدود الجغرافيا ليصل إلى الروابط الأسرية والعلاقات الإنسانية.
تعد منطقة شمال وشرق سوريا من أكثر المناطق تضرراً من النزاع منذ عام 2011 حيث اضطر ملايين السوريين للنزوح داخلياً، نتيجة الصراع الذي كان قائما بين الفصائل المختلفة من المعارضة و جيش النظام السوري , و زادت الهجرة و النزوح الداخلي نتيجة العمليات العسكرية التركية المتكررة على أجزاء مختلفة من سوريا و لاسيما مناطق شمال و شرق سوريا , حيث أدى احتلال عفرين الى نزوح ما يزيد عن 200 الف شخص وكما أدى الحصار الاقتصادي الذي تم فرضه على النظام السوري إلى زيادة الفقر وفقدان الخدمات الأساسية الذي دفع آلاف العائلات لترك منازلها يقدر عددهم حوالي 6.5 مليون طلب لجوء خارجي، (بحسب إحصائية لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ) .
يؤثر النزوح الداخلي على تفكك البنية الأسرية فعند اضطرار العائلة للنزوح من منطقتها الأصلية إلى منطقة أخرى، غالباً ما يتم تشتت الأسرة , فأحياناً ينفصل أفراد العائلة بسبب اختلاف وجهات النزوح أو بسبب استحالة الانتقال الجماعي مما يؤدي إلى تباعد بين أفراد الأسرة الواحدة , ويضعف من الترابط والتواصل بين العائلات، وغالباً ما تكون الحياة صعبة في مناطق النزوح من حيث السكن، فرص العمل، والوصول للخدمات وقد تخلق ضغوط الحياة الجديدة وتأثيرها على العلاقات بين الأفراد داخل الاسرة الواحدة , وبسبب الظروف القاسية قد تتغير أولويات الافراد بحيث يصبح التركيز على النجاة وتلبية الاحتياجات الأساسية , ويقل الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية او العائلية مما يؤدي تدريجياً الى نوع من الجفاف العاطفي او الانفصال النفسي داخل الاسرة .
* الشابة (ر.ع ) و هي نازحة من ناحية الشيخ حديد في ريف عفرين حدثتنا عن معاناتها بعد اضطرارها للنزوح مرة أخرى مع عائلتها نتيجة الهجوم على المنطقة من قبل فصائل ما كانت تعرف بالجيش الوطني السوري بعد هرون رأس النظام في سوريا، قالت ر ع: ان النزوح لم يقتصر فقط على ترك بيوتنا بل دمر جزء كبيراً من تفاصيل حياتنا، كما أشارت ان إصابة زوجها في قدمه إثناء عملية النزوح بطلق ناري من قبل تلك الفصائل ( العمشات والحمزات)، شكلت عائقاً أمام قدرته على العمل مما زاد العبء النفسي والاقتصادي عليهم، كما عبرت عن الصعوبات التي تواجهها في الحصول على عمل، بالإضافة الى أنهم تركو ما يملكون ورائهم، فاضطروا للنزوح الى مناطق عدة داخل سوريا بدءاً من ريف حلب وصولاً الى محافظة الحسكة
إما النزوح الخارجي يؤثر على تفكيك الروابط العائلية وبعد المسافة والانفصال الجغرافي يؤديان إلى انقطاع تدريجي في التواصل خاصة في ظل اختلاف التوقيت والظروف المعيشية، وتغير أنماط الأدوار داخل العائلات , فغالباً ما يتحول أحد الافراد الى المسؤول الرئيسي عن إعالة الأسرة في ظل غياب الأب او من يعيل العائلة، فالمغتربون يواجهون تحديات نفسية كبيرة تتعلق بالاندماج والخوف من فقدان الهوية والانتماء وكما يعاني البعض من الشعور بالوحدة، وفي بعض الحالات تنشأ فجوة ثقافية بين الآباء والأبناء خصوصاً في دول المهجر فالأبناء يتأثرون بثقافة جديدة ما يؤدي إلى تباين في القيم والمفاهيم ويؤثر سلباً على لغة الحوار والتفاهم داخل الاسرة، ونتيجة الضغوط النفسية والاقتصادية تتراجع قدرة الأفراد على الانخراط في الحياة الاجتماعية داخل المخيمات مما يعيق الشعور بالعزلة ويضعف فرص بناء علاقات جديدة او الحفاظ على العلاقات القائمة
من ضمن القصص التي تعكس التحديات العميقة التي تواجه الشباب في طريقهم للهجرة، قصة رواها لنا أحد الشباب المهاجرين إلى خارج سوريا وهو ( ز.م ) حيث قال بأنه اضطر لمغادرة البلد بصعوبة و ذلك نتيجة تدهور الوضع الأمني وغياب الاستقرار والخوف من الاستهدافات التي تطال المنطقة , و قد استطاع أخيراً الوصول إلى بلد أوروبي بحثاً عن الأمان و مستقبل أفضل ، لم تكن بداية حياته هناك سهلة فقد عاش وحيداً في بيت صغير يكافح من اجل الاستقرار ويعمل الان في نظام المناوبات المزدوجة لساعات طويلة , وفي الوقت نفسه التحق بمدرسة لتعلم اللغة , لم يكن ينام سوى بضع ساعات ليأمن مصروفه الشخصي وتكاليف معيشته، عانى هذا الشاب في البداية من مشاعر الوحدة والاكتئاب نتيجة بعده عن عائلته وانعدام الدعم الاجتماعي الى جانب انخراطه في مجتمع يختلف كلياً عن مجتمعه وعاداته وتقاليده، لكن مع مرور الوقت بدأ بتكوين الأصدقاء وبدأت ملامح الحياة الجديدة تتشكل له في مكان اقامته لكنها جاءت بعد دفع ثمن غال من التعب النفسي والبدني الذي تعرض له .
الهجرة والنزوح لا يحملان فقط أبعاداً مادية او جغرافية بل يتركان أثراً عميقاً على البنية الاجتماعية للأسرة والمجتمع ومن الضروري التفكير في حلول تضمن الحفاظ على الروابط الإنسانية ودعم الأسرة في التغلب على التحديات النفسية والاجتماعية الناتجة عن هذا التغير القسري في حياتهم .
مركز الأبحاث وحماية حقوق المرأة
15/6/2025
No responses yet